تغور مراجعة الخطوة الأولى حتى فترة مشروع تخرجه من كلية الفنون الجميلة (جامعة دمشق) متمثلةً بمركزية سيميولوجية الكرسي (مثله مثل روشنبرغ)، يحضرني معرض انعطافي جمع باقة من الفنانين المعروفين في دمشق بعنوان: «كراسي»، كان له صدى لا يستهان به لما يحمل من سخرية نقدية مضمرة لعشاق المناصب القمعية. فإذا كان فناننا لم يزر معرضهم لأنه كان يافعاً في حينها، ولم يتعرف على دادائية روشنبرغ المحدثة قبل وصوله باريس، فإن اختياره الحدسي لهذا العنصر النقدي يؤكد تجذره في الغثيان الجمعي من التسلط وفي وقت صور فيه رسام الكاريكاتور علي فرزات مسؤول النقابة الرفيق غازي الخالدي بقياس الذبابة داخل مقعده العملاق الوثير البحبوح، وفي وقت انتشرت فيه رواية ديستويفسكي «الإنسان الصرصار» رمزاً لتغلغل الثقافة الروسية.
كرسي وليد كان مطهراً من هذه الإلماحات فقد أعاد تشريحه بما يناسب تجريد تكويناته الخطية أو اللونية. فالقزم في لوحة وليد هو الكرسي نفسه الذي ينتبذ زاوية قصيّة في الأعلى مقابل رحابة فراغ ينبض بالألوان النورانية، هو كرسي متسلل بجزء منه إلى الفضاء، تاركاً لخيال المشاهد استكماله في عالم «المثل المعلقة» الأفلاطونية، فهو نموذج أحادي من عالم المعقول، أما عالم المحسوس فيطرد بدوره من أسفل اللوحة ما خلا التوقيع. كرسي مؤنسن ولكنه لا يعاني من أسلبة العزلة، فقد يكون مزدوجاً متناظراً، وقد تتعدّد ملامحه في شرائح مشطورة من أسفل خشبية مجتمع الكراسي.
تتطابق طبوغرافية التعددية ثنائية: «الجمع والتفريق» أو بالأحرى «التفريد والتجريد»، ليس بمعناها الصوفي، وإنما بالعكس بفلسفتها الطاوية، ممتثلاً لتراث أفضلية الفراغ (الرئة القدسية) على الامتلاء (ما قل ودلّ). ثابر على رسم كراسيه منذ مشروع تخرجه عام ٢٠٠٥م وحتى نزوحه مع حرب القيامة الشامية إلى باريس عبوراً من تعاونه مع «أيام غاليري». (هو من مواليد دمشق عام ١٩٧٩م ومن أب لبناني). نصل هنا إلى الخطوة الثانية قبل الراهنة، مستبدلاً الكراسي بالأكفان أو بالأحرى بعنصر ملتبس هو «الشرنقة المعلقة» بشجرة الحياة، ابتداءً من عام الثورة ٢٠١١-٢٠١٢م.
بدأت القصة حسب روايته من استحضار لوحته لبداية الأحداث الصادمة في حلب، حيث كان المواطنون ينتشلون الجثث التي تطفوا على نهر القويق بعد تعذيبها وتشويهها، يكفنونها مع مهابة تقاليد الدفن والموت. كان يصوّرها مصطفة الأكفان، ثم تتابعت تفاصيلها فتحولت إلى أخاديد من صفوف أكفان الأطفال بالمئات مع الذبح الجماعي والقصف الجماعي والإبادة الجماعية. يعتمد رمزياً في هذا التقرّح على التوليف بين «شجرة الحياة» المؤسطرة في ماري وكنعان وتدمر وسواها وسليلتها «شجرة النذور» الشائعة في محيط دمشق، تعلّق عليها نذور التمنيات والدعوات يقابلها حضرياً عنصر الأسكي في الأفراح (مثل الطهور) تملأ بالملبّس وتوشّى بأنواع بطاقات النذور أيضاً. استعار وليد شجرته من الرمز الصوفي لأشجار الجنة التي تحمل أجراساً تعبق مع النسمات بألحان قدسية لا تتجلّى إلا للقطب أو العارف المكشوف عليه بالاتصال. تروي سيرة مولانا أن أحد أقطابه أخذته غفوة فأيقظه صحبه خشية عليه، فوبخهم قائلاً: «ويحكم، كنت في الجنّة وما تدرون» أي أنه تواصل مع لحن من هذه الأجراس فانقطع بإيقاظه.. رفع وليد الأجراس، وعلّق مكانها شرنقات أكفان الأطفال، ثابرت شجرته على بعدها الروحي -الدرامي فهي شجرة قرآنية مباركة، مقدّسة تثمر التين والزيتون. يذكر السلمي في طبقاته سيرة أحد الزهاد الذي بادر عرفانيته بمقابله شيخ الضيعة المتصوّف وسأله إذا كانت هناك شجرة تليق بأن يموت تحتها، فأشار له بزيتونة وارفة، فاتجه إلى ظلها ومات فيه..
طوباوية طائر الفلك
بدأ الرمز الصوفي: «الطاووس» يتظاهر مركزياً رحباً في لوحات وليد منذ عام ٢٠١٨م إثر توقفه عن الإنتاج مؤقتاً (لعدة أشهر) بسبب الحادث الأليم الذي أصاب عائلته وأودى بحياة والده. هو نوع من التمسك بالبعد الروحي في الفن الإسلامي ورموزه المباركة، شهدنا شجرة النذور وها هو ينقل قطاره الفلسفي والأسلوبي جذرياً من سكة الطاوية إلى تقاليد المنظور الإسلامي (منظور عين الطائر أو العنقاء)، هو المنظور المتعدد مصادر الإضاءة، والمتعدد نقاط النظر، يكشف الطاووس من شتى جهاته وبصيغة لونية فردوسية صائتة، هو الموروث الذي يؤاخي بين البصيرة والسماعي، هو المنظور الثنائي الأبعاد أو المسطح بدون ظلال ولا حجوم ( في رسوم المخطوطات أو المنمنمات) الذي يتناقض مع منظور آلبرتي (عصر النهضة) الثلاثي الأبعاد حيث تهرب فيه الخطوط إلى مستوى الأفق في الخلف أو تلتقي في الأمام وفق المنظور الطاوي. ناهيك عن أفضلية اللون على الخط. يحضرني الصراع بين طاو في القرن السادس ق.م حين أعلن أن «الخط هو بداية الخلق»، أجابه بهزاد أكمل الدين أعظم المصورين في الطريقة النقشبندية: «اللون هو بداية الخلق» (في القرن السادس عشر).
ينتقل انحياز وليد من الطرف الأول إلى الثاني منتهلاً من ملحمة فريد الدين العطّار مجاهداته الكونية على لسان رموزه الحيوانات المقدسة: «منطق الطير». يضاف إلى الطاووس العنقاء وطائر الهدهد الذي كان يفتش مثلهم عن الحق فوجده في مرآة كونية عملاقة. وجد وليد ضالته وسكينته الروحية في الطاووس، هو الذي كتبت عنه النحاتة والمتخصصة في علم الجمال نور عسلية: «إنه كائن نادر الحضور في اللوحة بقدر ندرة حضوره في الحياة» وذلك في مقدمة كاتلوك معرضه. تجتمع طواويسه الطازجة الأخيرة اليوم في لوحات ورسوم معرضه الراهن (ابتدأ في الخامس من أكتوبر مستمراً حتى العاشر من نوفمبر ٢٠١٩م في فناء الصالة الزاهية «كريم» في عمّان، الأردن).
يتزامن مع هذا المعرض الشخصي شراكته في معرض باريسي يعانق أعمال ثمانية عشر فناناً من أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط حول موضوع «العين والليل» في معهد الثقافات الإسلامية. من الجدير بالذكر أن كاتلوك المعرض اختير له كصور (للغلاف الأول والأخير) طواويس وليد المصري ذات اللون الليلي أو الفردوسي التركواز.
(عن “العربي الجديد”)
16-أكتوبر- 2019