الثابت هو أن يعقوب صنوع مولود لأب إيطالي وأم مصرية، وأنه مدفون في باريس، وقد كتب مذكراته تحت عنوان “حياتي شعراً ومسرحي نثراً”، لكنّ ريادته لـ”المسرح المصري” لا تزال محل خلاف، خصوصاً على الصعيد الأكاديمي.
وقبل أيام، صدر كتاب للناقدة الأكاديمية نجوى عانوس عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة عنوانه “يعقوب صنوع رائد المسرح المصري ومسرحياته المجهولة”، بدا ردا على كتاب “محاكمة مسرح يعقوب صنوع” للأكاديمي المصري سيد علي إسماعيل والصادر في العام 2001. ولا يعني ذلك أن عانوس تأخرت في الرد على نفي إسماعيل أن يكون صنوع هو رائد “المسرح المصري”. فالمؤلفة وهي أستاذة المسرح في جامعة حلوان سبق لها أن أصدرت كتابين حول ريادة صنوع بالذات لما تسميه “المسرح المصري”، فيما يسميه إسماعيل “المسرح في مصر”. ويعتبر سيد علي إسماعيل أحد تلامذة عانوس في كلية الآداب في جامعة حلوان، وهو دفع أستاذته إلى العودة مجدداً إلى موضوع ريادة يعقوب صنوع عندما أعلن خلال مؤتمر للهيئة العربية للمسرح عقد في القاهرة في يناير (كانون الثاني) الماضي، أنه لا يوجد أي دليل على أن صنوع هو أول مصري قدَّم مسرحيات باللغة العربية أو باللهجة العامية المصرية، في وقت كان السائد خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر هو المسرح الفرنسي أو الإيطالي برعاية مباشرة من الخديوي إسماعيل. والحقيقة هي أن طرفي ذلك السجال وقعا في الإشكالية ذاتها وهي المتمثلة في التمييز بين مسميين، هما “المسرح المصري” و”المسرح في مصر”، باعتبارهما شيئين مختلفين جذرياً. ترى عانوس أنه لا ينبغي إدراج يعقوب صنوع في قائمة مبدعي “المسرح في مصر” والتي تضم أعمال الرواد الشوام وعروض بعض الفرق الأجنبية، بما أن صنوع مصري المولد والنشأة! لكن الدكتور سيد إسماعيل علي يصر على أنه لا دليل على أن يعقوب صنوع قدَّم عروضاً مسرحية في مصر، رغم وجود نصوص مسرحية لا يوجد شك في نسبتها إليه. وعلى أية حال فإن المقصود بالمسرح هنا هو الشكل الغربي الحديث لأبي الفنون، وليس عروض الأراجوز وخيال الظل التي دأب مصريون على تقديمها قبل أن يؤسس سلامة حجازي فرقته المسرحية (1905) بسنوات طويلة.
والجديد الذي قدَّمته عانوس في كتابها الأخير يتمثل في عثورها على أعداد من صحيفة “الجوائب”، لصاحبها أحمد فارس الشدياق، بمساعدة تلميذ آخر لها في كلية الآداب- جامعة حلوان هو الدكتور نبيل بهجت، تتضمن أخباراً عن عروض مسرحية قدَّمها يعقوب صنوع في القاهرة بين عامي 1870 و1872، نال بعضها إعجاب الخديوي إسماعيل فأطلق عليه لقب “موليير مصر”، ونال بعضها الآخر سخطه فأمر بإغلاق مسرحه، ليضطر إلى مغادرة البلد والقيام بجولة في أوروبا حتى اختار فرنسا في 1876 ليقيم فيها باسم جيمس سنووا.
وتؤكد عانوس أن يعقوب صنوع سبق مرحلة التأليف للمسرح في مصر التي بدأت خلال الحرب العالمية الأولى، بأكثر من ثلاثين عاماً، وأن مسارح القاهرة ظلت تعرض له أعمالاً من تأليفه من 1870 إلى 1910، علماً أنه توفيَّ في 29 أيلول (سبتمبر) 1912 عن عمر ناهزَ السبعين عاماً.
بحثا عن هوية
ينطوي كتاب عانوس الذي يتألف من 491 صفحة من القطع الكبير، على “دراسة إبستمولوجية”، ويعد “جولة ثالثة” لها في عالم يعقوب صنوع، بحسب ما ورد في تقديم الأمين العام للنشر في الهيئة العامة لقصور الثقافة الشاعر والناقد جرجس شكري. الجولة الأولى تمثلت في كتاب “مسرح يعقوب صنوع” 1984، والثانية تجلت في كتاب “اللعبات التياترية” 1987. والكتاب الجديد يعد بحسب شكري محاولة لتقديم قراءة جديدة في مسرح يعقوب صنوع، مستعينة بالمنهج الإبستمولوجي لتمارس المؤلفة دورها في دراسة ونقد المبادئ والفروض السابقة حول مسرح صنوع، سواء كانت معه أو ضده، لتعود في “رحلة شاقة” إلى دوريات الأعوام من 1870 إلى 1872 (وادي النيل- الجوائب- إيجيبت). سافرت عانوس إلى باريس والتقت هناك حفيدة صنوع التي منحتها نسخة عن مذكراته المكتوبة بالفرنسية. وسافرت كذلك إلى بيروت حيث التقت المؤرخ المسرحي محمد يوسف نجم، ثم إلى تركيا لتحصل من مكتبة أتاتورك على صحيفة “الجوائب” والتي دحضت من خلالها كما يقول شكري “المغالطات والمزاعم التي أثيرت حول ريادة يعقوب صنوع للمسرح المصري”. منكرو ريادة صنوع يرون أن الريادة ترجع إلى فرقة سلامة حجازي، باعتبارها أول فرقة مسرحية أسسها مصري، وما سبقها “كان أجنبياً”. ويعلق جرجس شكري على ذلك بأنه “ينطوي على فكرة عنصرية تنزع عن تلك الحقبة مصدر القوة وأسباب الازدهار وهي الانفتاح على الثقافة الإنسانية والتعايش مع الآخر”. ويضيف شكري: “وبعيداً عن هذه الأكاذيب التي تمَّ الرد عليها في حينه، لا يحتاج يعقوب صنوع إلى جهد كبير لإثبات ريادته للمسرح المصري، أو إخلاصه وتفانيه؛ ليس فقط في تأسيس هذا النوع الجديد من الفن بل في الدفاع عن مصر والمصريين، وتأثيره الذي مازال ممتداً” ويقول شكري: “ومن يقرأ أعمال صنوع المسرحية أو الصحافية أو السيرة الذاتية يتأكد في كل حرف من إخلاصه لهذا الوطن منذ ولادته، مروراً بنضاله السياسي والثقافي من أجل مصر ووصولاً إلى مقبرته (اليهودية) التي أحاطها بالرموز المصرية”.
في التمهيد تقول عانوس أن المقصود بريادة يعقوب صنوع للمسرح المصري من 1870 إلى 1872 هو العرض على خشبة المسرح، “لكن صنوع استمر يكتب مسرحيات إلى 1910 إذ كتب بعد 1872 “موليير مصر وما يقاسيه”، “الزوج الخائن”، وكتب ثلاثين “لعبة تياترية” منشورة في مجلة “أبو نظارة” وهي عبارة عن دراما صحافية، أو مسرحيات صحافية مصورة رسم فيها رؤيته الإخراجية رسماً دقيقاً يجعل المتلقي يشاهد العرض بالصور وإن لم يشاهده على خشبة المسرح. ويصف صنوع في تلك “اللعبات” تقنيات العرض المسرحي (ملابس- حركة الممثل- ديكور… الخ) وبالتالي لا ينتهي مسرح يعقوب صنوع عند عام 1872 بل يمتد إلى 1910 بالصورة.
حضور شامي
وعموماً لا يمكن أن ننفي عن المسرح في مصر مصريته لمجرد أن من قدموه كانوا من الشام، وذلك ينطبق أيضاً على الصحافة عبر تجارب رائدة مثل “الأهرام” والهلال”. وفي إطار ذلك السجال خارج الكتاب الذي نعرضه هنا يقول المؤرخ المسرحي عمرو دوارة: بدأت ريادة المسرح على يد مارون النقاش اللبناني في 1848، ثم أعقبتها ريادة أخرى على يد أبي خليل القباني السوري في عام 1856، ثم كانت الريادة الثالثة في عام 1870، على يد يعقوب صنوع الشهير بـ”أبونضارة”، ثم استُكمِلت البدايات بوصول سليم النقاش إلى مصر عام 1876، ومن يومها استمر المسرح المصري من دون توقف بل امتد إلى باقى البلدان العربية، ففي عام 1884 قدم أبو خليل القباني عروضاً لفرقته في دمشق.
ويضيف دوارة أن هذه الفرق قدمت مسرحيات تناولت قضايا المجتمع المصري في تلك الحقبة، وبدأ ظهور بعض فرق الهواة ثم بعض الفرق الإحترافية وذلك بخلاف تكوين فرق مسرحية ببعض المدارس القبطية والإسلامية وتقديمها لعروض، مؤكداً أن اللجنة العلمية لمهرجان المسرح العربي الذي تنظمه الهيئة العربية للمسرح، لم تقرر أن عام 1905 بداية المسرح المصرى، لكنها أقرَّت أنها مرحلة سبقتها مراحل أخرى في عمر المسرح المصري الحديث بدأت في 1870، وهو ما ذهبت إليه نجوى عانوس، ولم يقره سيد علي إسماعيل.
واشتملت دراسة عانوس التي تضمنها كتابها الجديد مقدمة وتمهيداً وفصلين. الفصل الأول عنوانه “عالم يعقوب صنوع الفكري”، والثاني “عالم يعقوب صنوع الفكري في لعباته التياترية”، منطلقة من أنه لا يمكن دراسة مسرح صنوع وتوجهاته قبل الدخول في عالمه الفكري المتمثل في تراثه الديني اليهودي وماسونيته وتراثه الشعبي وتأثره أيضاً بالتراث الغربي. والمعروف أن يعقوب صنوع ادعى الإسلام وهجر القبعة وارتدى الجبة والقفطان ولقب نفسه بالشيخ بل وكان يستشهد في كتاباته الصحافية بآيات من القرآن. لكنه يعود بعد ذلك ليؤكد يهوديته في رسالته إلى صديقه الكونت فيليب دي طرازي في 18 أكتوبر 1911 ويقول فيها: “لم أغير اعتقاد والدي ولو أن أحترم الثلاثة أديان وأمانتي الوحيدة هي القدرة الإلهية والشاهد ما جرى بيني وبين المرحوم مظفر الدين شاه من الحديث… سألني إن كنت مسلماً أو شيعياً فجاوبته بأني من بني إسرائيل، فقال من حيث أنك تحب أمتنا وتدافع عن حقوقها وتحترم شريعتها، فلماذا لا تسلم وتصبح من الرجال العظام، فقلت له إذا فعلت ذلك يقول الناس من لا خير له في دينه فلا يكون له خير في دين آخر اعتنقه لكسب الرتب والأموال”. صـ 45.
أما مسرحياته المجهولة، فتوردها نجوى عانوس في الكتاب بعد تقسيمها إلى أولاً: “جيمس وما يقاسيه”، ثانياً: نصوص الدراما الصحافية المسماه باللعبات التياترية وتضم “القرداتي”، “حكم قراقوش”، “بالوظة أغا وعدالته”، “الكبانية لعبة تياترية”، “الدخاخني”، “زمزم المسكينة”، “جرسة إسماعيل”… ثالثاً: المسرحيات الصحافية المصورة، وتضم “سلطان الكنوز”، “ملعوب الحدق”، “البارلمانتو المصري”، “الجهادي”، “شيخ الحارة”، “سقوط نوبار”، “الحيل الانكليزية لسلب الأموال”، “ستي وحيدة أم نظارة بيضا”، و”فتح بربر”، وغيرها.
وتقول عانوس: “قد نختلف مع صنوع ولكننا لا نختلف عليه وعلى وجوده وريادته، وتنتمي دراستي إلى الحقل الإبستمولوجي الذي يضع في مقدمة دائرة اهتمامه البحث عن الأصول المعرفية التي شكلت المنطلقات الخلفية التي انطلق منها صنوع في بناء مسرحياته بعد أن تفاعلت في عقله من مبدأ مؤداه أن النص اللغوي يحمل خصائص صاحبه وصفاته وفكره”.
عن “اندبندنت عربية”
-12 ديسمبر -2019 –