السينما ورهان الذاكرة في "عالم ليس لنا"

“عالم ليس لنا”. إنها عبارة يائسة من دون شك، كتبها الأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني قصة، وباتت عنواناً لمجموعته القصصية الصادرة عام 1965، غير أن فلسطينيي عام 2012 ليسوا أوفر حظاً، ففي الوقت الذي ظهر فيه فيلم تسجيلي حققه الفلسطيني اللبناني مهدي فليفل ويحمل العنوان نفسه، كان الفلسطينيون يرزحون تحت عبء اليأس، نتيجة العيش بعيداً عن وطنهم، وعلى هامش المجتمعات الجديدة التي لجؤوا إليها.
يحكي الفيلم التسجيلي “عالم ليس لنا” قصة مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، المخيم الذي يكتظ بعشرات الآلاف من اللاجئين على مساحة لا تتجاوز الكيلومتر المربع الواحد.
بورتريه مرح
هو “بورتريه” للمخيم، وإن كان بعدسة أحد أبنائه، أو ربما بسبب ذلك بالذات، فقد جاء فيلماً مرحاً متهكماً، يصور هذه البقعة المكتظة بالبشر والسلاح والمقاتلين والشهداء والمطلوبين كما لو أنها الفردوس المفقود، بل إن المخرج لا يتردد في القول إن المخيم هو “ديزني لاند” الخاصة به، هو الذي كان يعيش في الدانمارك ويقضي إجازاته الصيفية في المخيم.
مرح الفيلم يأتي أولا من ذلك الإيقاع الحيوي للمروي على لسان المخرج باللغة الإنجليزية، مرافقا شخصيات فيلمه والأمكنة التي صوّر فيها، ويصرّ المخرج على طريقة في الإلقاء لا تنزع إلى نبرة “ميلودرامية”، مع أن الصورة قد تدفع إلى أجواء حزينة ومليئة بالدموع.
والأهم المونتاج (“المونتير” مايكل أوغلاند) الذي حرص ألا يستغرق طويلا في مشهد أو صورة، وبراعة المونتاج تكمن في هذا الإيقاع الحيوي والسريع للمشاهد، والذي جعل من 93 دقيقة -مدة الفيلم- في منتهى الرشاقة والخفة.
لكن أهم أسباب المرح الموسيقى المرافقة للفيلم، لعلها من بين مرات قليلة لا يستخدم فيها تسجيلي عن الفلسطينيين أغنيات فيروز أو التراث الشعبي الفلسطيني أو ما سمي الغناء الملتزم. الموسيقى التي رافقت الفيلم كانت لآلات وألحان موسيقية غربية ولمغنّيين غربيين.
استخدام الموسيقى العالمية يشبه إلى حد كبير تصوير تفاعل المخيم مع مباريات كأس العالم -ففكرة الفيلم أساسا بدأت من هنا، على ما يقول المخرج- من تلك النار التي يبثها الحدث العالمي في قلب المخيم، حيث تشتعل المراهنات والمشاجرات وترتفع أعلام العالم.
هل أراد المخرج أن يضع المخيم في قلب العالم، أو أن يضع العالم في قلب المخيم؟ ربما ليقول إن لهذا المجتمع الصغير المهمل أحلامه كسائر البشر، وإنه يشتعل بالحياة والأمل مثلهم جميعا.
“يزجّ المخرج في فيلمه عشر سنوات من التصوير للمخيم، يضيف إليها ما ورثه من فيديوهات شبه منزلية صورّها والده المولع بالكاميرا”
المخرج يزجّ -تاليا- عشر سنوات من التصوير للمخيم في فيلمه، يضيف إليها ما ورثه من فيديوهات شبه منزلية صورّها والده المولع بالكاميرا. سيكون لديه أخيرا 75 ساعة تصوير، تجري “مَنْتَجَتُها” إلى 93 دقيقة.
قوة اليأس
يحكي الفيلم التسجيلي بشكل أساسي سيرة ثلاث شخصيات، تظهر من خلفها كل حكاية المخيم: الجد أبو أسامة، الذي جاء من بلدة صفورية شابا ابن 16 عاما وقد بلغ الآن الثمانين، مؤمن بحقه في العودة إلى قريته، كما يصرّ على البقاء في المخيم رافضا السفر إلى منفى آخر، إنه يرتبط ببيت بناه بيديه في المخيم وبات يعني له الكثير، وليس من السهل التفريط بالمكان الذي عاش كل حياته بين جنباته.
إنه في النهاية المكان الذي يطلّ منه على قريته القريبة في الشمال الفلسطيني حيث المسافة ليست سوى عشرات الكيلومترات.
لكنّ هناك وجها آخر من شخصية الجد، إنه ذلك الحضور الطريف الذي تولّده المطاردات المستمرة بين الجد وبين الأولاد، مطاردات موضوعها المطالبة بالهدوء والكفّ عن اللعب قريبا من الجد. إنه حال يضع الجد النزق دائما في وضع مضحك، يبدو لا يفعل شيئا سوى أنه يشتم كل ما حوله: الحياة، وضيق المكان، والأولاد، بل المصور والكاميرا أحيانا.
الشخصية الثانية، هي سعيد الشاب الممتلئ بالطاقة والحيوية، وينحصر عمله في أنه “كشاش” للحمام، تلك التي يمكن اعتبارها مهنة العاطلين عن العمل، وبائع لهذه السلعة أو تلك حسب الموسم، فهو أثناء كأس العالم بائع للأعلام، وهو دائما يبحث عن علب البيبسي المعدنية ليبيعها. إنها أعمال يفرضها التحريم اللبناني للاجئين الفلسطينيين من العمل في أكثر من سبعين مهنة، الوضع الذي أوصلهم في النهاية ليكونوا عاطلين عن العمل، وبلا مهن تذكر.
الناجي من المقلاة
أبو إياد، وهو الصديق الأقرب إلى المخرج، فيمكن اعتباره محور الفيلم وبطله، هو المقاتل السابق، اليائس الآن بلا حدود، وقد وصل به الحال أن يشتم فلسطين والفلسطينيين متمنيا لهم الموت.
أبو إياد بيأسه الصلد قد يكون نموذجاً لنفهم كيف ولماذا يفجّر الناس أنفسهم ومحيطهم، يائس من قيادته الفلسطينية ومن ثورته، ويتوجه إليها بأقذع الشتائم، وناقم على السلطات اللبنانية التي لا تسمح له ولأمثاله بحق العمل، وناقم حتى على فلسطين التي حشرته في هذه الوضعية الاستثنائية.
غير أن أبو إياد يقودنا إلى شخصية أخرى لا يمكن تجاهلها في الفيلم، هي شخصية المخرج نفسه، الذي يحاول أن يتوارى كمخرج وصانع للفيلم، ويحضر كشخصية تنتمي إلى المكان نفسه. إنه (المخرج) حاضر في كل تفاصيل الفيلم، كنموذج لما يمكن لأناس المخيم أن يكونوا عليه لو أتيح لهم.
لقد نجا من المقلاة. استطاعت عائلته أن تنجو بنفسها عبر السفر إلى الإمارات، ومن ثم الاستقرار في الدانمارك، وأتيح له بالتالي أن يكون المخرج الذي عاد ليقدم مأساة المخيم، ومأساة عائلته وأصدقائه بالذات.
يريد المخرج بالطبع أن يحكي حكايات شخصية جدا، ولكن من دون أن ينسى أنه يحكي حكاية شعب.
سنجده دائما يعود إلى المخيم وشوارعه وأزقته، ليذهب أحيانا إلى أسّ المصيبة الفلسطينية بتأسيس الحركة الصهيونية والنكبة التي حدثت للفلسطينيين جرّاءها، ملتفتا إلى بعض الأحداث المفصلية في تاريخ الفلسطينيين، كاتفاق أوسلو والمصافحة الشهيرة المذلة (كما يظهر الفيلم) حين يمدّ ياسر عرفات يده مصافحا إسحق رابين الذي يمدّ يدا مترددة.
لاجئ في برلين
الشاب أبو إياد يستقيل من حياته كمقاتل ويخطط للنجاة بجلده عبر السفر إلى اليونان ومنها إلى جنة الغرب، يخفي حلمه عن أصدقائه وأقاربه، ويبوح به فقط للكاميرا، وفي اليونان سرعان ما ينكسر حلمه لتعيده السلطات اليونانية إلى مخيمه.
سنراه في شارع معتم في اليونان جالسا إلى الرصيف بوجه في منتهى اليأس والحزن، ليختم الفيلم بعبارة تقول إنه أعيد إلى المخيم.
عدوى اليأس لعلها ستصيب المشاهد أيضا. يفكر المرء هنا في حال عشرات الآلاف من الفلسطينيين في هذا المخيم، بل وأمثالهم في مخيمات أخرى في أحوال مشابهة، أو أشد سوءا.
حتى لو نجا أبو إياد، نعرف أن مئات الآلاف غيره يعيشون المأساة ذاتها. نحن بالفعل سنعلم لاحقا أن بطل الفيلم سينجو حين يعرض الفيلم في برلين ويدعى إلى حضور الفيلم فيبقى هناك لاجئا فيها. ولكن من لملايين الفلسطينيين؟
إنه فيلم عن اليأس، لكنه ليس فيلما يائسا بالضرورة. ففي الفن والسينما نوع من الأمل، إنها نوع من “أضعف الإيمان” الذي بإمكانه أن يواجه دافيد بن غوريون رئيس الحكومة الإسرائيلي الذي وعد العالم بأن الأجيال المقبلة من الفلسطينيين ستنسى قضيتها. هذا ما يأتي الفيلم على ذكره، الفيلم -على الأقل- كسب لهذا الرهان.
راشد عيسى
“الجزيرة”
2014/6/22
"بعيدا عن الوطن": الوثائقي ينتصر

45 عاما مرت الآن على الوثائقي الذي أنجزه المخرج قيس الزبيدي عن أحد المخيمات الفلسطينية المحيطة بدمشق تحت عنوان “بعيدا عن الوطن”. لا شك أن للفيلم أهميته في ذلك الوقت، لكن مرور كل هذا الزمن يمنح الفيلم مكانة أخرى، ليس الزمن وحده، بل الأحداث السورية الأخيرة التي وضعت سكان المخيم في مهب الريح مجدداً.
في عام 1969 ذهب المخرج العراقي قيس الزبيدي إلى مخيم سبينة الذي يبعد عن مركز العاصمة السورية حوالي 14 كيلومترا، صوّر جوانب من حياة المخيم، مسلطاً الضوء على وجوه الأطفال، الذين كانت الكاميرا تشدّهم في ذلك المكان المقفر فيلاحقونها من مكان إلى آخر.
تستكشف الكاميرا وجوههم، وضحكاتهم، وعبوسهم، وأماكن لعبهم التي تقتصر على كرة قدم يتقاذفونها في فسحة صغيرة بين الخيام، أو التزحلق على سطح الخيمة، أو العراك في ما بينهم. سوى ذلك، لم يكن غير وجوه الأطفال التي حرقتها الشمس، غاضبين عابسين، عيونهم تحدق في مجهول لا يعلمه أحد.
اللاجئون هم هم
لا ظهور لرجال المخيم في الفيلم، أما النساء فمنشغلات إلى أقصى حدّ: هذه تحمل الماء على رأسها، وتلك تخبز قرب الخيمة، وأخرى تنحني على طفلة صغيرة تغسل لها وجهها وتمسحه بفستانها.
بؤس المخيم لا يشبهه سوى بؤس اللاجئين السوريين هذه الأيام. بإمكان المرء أن يلمس حياة شديدة الفقر، حبال الغسيل المشدودة بين خيمتين قالت ذلك، والمسافات الترابية غير المعبدة، واجتماع النساء على صنبور الماء، كما الاجتماع حول سيارة الإعاشة. مخيم ملقى في قلب ظهيرة صيفية مليئة بالغبار والحرّ والملل.
الملفت أن الفيلم كان واقعياً بلا حدود، ولا أوهام، ولا انتصارات مزعومة، ولا شعارات على الحيطان تتوعد، أو تزعم، أو تحلم بشيء، كانت النكسة قد تركت أثرها، ولعل سكان المخيم كانوا يبدؤون حياتهم من الصفر للمرة الثانية، إذ إن معظمهم كان يعتبر نازحا هنا، المرة الأولى كانت عام 1948 حيث اكتفى كثيرون بالعيش قرب الحدود، قريبا من المنطقة منزوعة السلاح، في البطيحة وسواها، إلى أن جاءت نكسة الخامس من يونيو/حزيران فاقتلعتهم من جديد.
“المخرج أخذ الأطفال بعد انتهاء التصوير إلى استديو الصوت، عرض عليهم الفيلم فراحوا يتصايحون فرحا وشجارا، يتضاحكون وهم يرون أنفسهم ويومياتهم”
لذلك، فمن المرجح أن أناس الخيام كانوا في قمة يأسهم. الناس إذا كانوا مشدودين إلى تفاصيل عيشهم وحاجاتهم اليومية، لم تكن الخيمة قد تحولت بعد من خيمة للذل إلى خيمة للفدائيين، إذا استعرنا عبارة أم سعد “خيمة عن خيمة تفرق”.
فرادة الفيلم
الفيلم لا يكسب فرادته من الصورة التي كان بإمكان كثير من المصورين الذين وصلوا إلى مخيمات اللاجئين أن يلتقطوا مثلها، بل في أن المخرج أخذ الأطفال بعد انتهاء التصوير إلى استديو الصوت، عرض عليهم الفيلم فراحوا يتصايحون فرحا وشجارا، يتضاحكون وهم يرون أنفسهم ويومياتهم.
يُعتقد أن الفيلم نال الجائزة الفضية في مهرجان لايبزغ بسبب هذه العملية بالذات، أي تركيب صوت الأطفال وانطباعاتهم فوق الفيلم.
الأطفال لم تجعلهم حتى هذه المسافة أن يروا حياتهم بمنظار الإشفاق، أو الفزع من رعب الحياة التي يعيشونها، فجلّهم ولد على هذه الحال، وكما يقول المثل الشامي “اللي ما بيشوف الحنطة ما بيقول أعطيني حنطة”.
بمرح راح الأطفال يعرّفون عن شخصيات الفيلم. يشير الطفل إلى أخته “هذه أختي فايزة”، ويقول آخر هذا أبو سعود، وهذه أم صالح، وتلك فاطمة المصطفى، وغزالة، وآمنة، وعيشة، وابن النابلسي، ومحمد علي صالح، وأخيرا عوض، درويش المخيم الذي يتجمع حوله الأطفال، يحكي لهم، ويضحكون من حكاياته.
عوض هذا -لمن لا يعرفه من أبناء المخيم- هو ناعي المخيم، وظيفة موروثة من أيام البلاد، حيث لم تكن قد اخترعت ورقة النعي، ولم تكن تقنيات الصوت جاهزة لنقل أخبار الوفاة وغيرها عبر مكبر الصوت.
كان عوض -إلى أن توفي- يدور بين الحارات ليخبر عن حالة وفاة، أو ينادي طفلاً ضائعا، يظل يدور، فيما أطفال المخيم يدورون وراءه، كان ذلك وحده يحتاج فيلماً وثائقياً آخر، غير أن آخر الأفلام عن المخيم كان فيلم الزبيدي ذاك.
“كبر المخيم، وكبر هؤلاء الأطفال، صاروا معلّمين وأطباء ومهندسين أو شهداء. وقف المخيم على رجليه أخيرا، العائلة فرّخت عائلات، وملصقات الشهداء لم تغب يوما عن حيطانه، وقد فرّخت هي الأخرى عائلات”
أطفال يحكون
بين صور الخيام، وهرج الأولاد المرحين، أجرى الفيلم مقابلات مع بعض الأطفال الذين حكوا بطريقة أو بأخرى حال المخيم، فكلهم ينتمي لعائلات كبيرة العدد، بعضهم يحلم بلقمة -لا أكثر- والبعض الآخر أن يقف أمام الكاميرا، فيما أكثرهم يحلم بأن يمتلك قلما، يريد أن يتعلم، هذا ليصبح معلما، وذاك ليصبح طبيبا.
كبر المخيم، وكبر هؤلاء الأطفال، صاروا معلّمين وأطباء ومهندسين أو شهداء. وقف المخيم على رجليه أخيرا، العائلة فرّخت عائلات، وملصقات الشهداء لم تغب يوما عن حيطانه، وقد فرّخت هي الأخرى عائلات.
لم يعد مخيماً للذل، فقد امتلك النازحون صوتهم، لم يُنسهم تحوّل خيامهم إلى الإسمنت أن عيونهم يجب أن تظل مشدودة إلى ما وراء الجبل الجاثم أمامهم، وهكذا إلى أن وقعوا في براثن النظام الحاكم في سوريا، الذي ساوى بينهم وبين السوريين في الظلم، فكان للمخيم حصته من التظاهرات، ومن قصف النظام الوحشي الذي هدم المخيم وشرد أهله كل في صوب.
اليوم بالذات تكتمل دائرة المأساة، وقد يكون تكرار التجربة مبدعا لو أخذنا الفيلم إلى أبناء المخيم ليشاهدوه، أو إن تتبعنا مصير عيشة وغزالة وأبو سعود وفاطمة المصطفى، وسواهم.
لا بدّ من فيلم يسجّل ما حلّ بأبناء المخيم. فكما هو واضح، فإن الخيام تذوي، وكذلك الإسمنت، والشوارع، والحارات، والأسماء، وحتى الجبل الجاثم أمامنا، كله يمضي، ويبقى الفيلم.
راشد عيسى
“الجزيرة”
2014/3/10
موسى الفلسطيني.. أو "السلحفاة التي فقدت درعها"
لكن الفيلم لا يعود إلى الطفولة، بل يروي اللحظة الراهنة، حيث تتطلع الشابة باري إلى فهم أبيها وقضيته، وإلى فهم إشكالات العلاقة بينهما. علاقة يمكن اعتبارها نمطا شائعا للعلاقة بين الأجيال الجديدة من المهاجرين مع آبائهم في المنفى الأوروبي، حيث يجد الأبناء أنفسهم منتمين إلى ثقافة مختلفة، وفي قطيعة مع ثقافة الآباء.
يعرض الفيلم، عبر نتف من حوارات مع الأب، ومقابلات مع عائلته في فلسطين، مبثوثة هنا وهناك، سيرة الأب موسى القلقيلي حين قدم لاجئا إلى ألمانيا العام ١٩٦٤، فتزوج من سيدة ألمانية (والدة باري)، لكنه لا يلبث أن ينخرط في صفوف الشيوعيين. يسافر إلى سوريا ليخوض دورات تدريبية تهيئه للدفاع عن قضية فلسطين.
القلقيلي الأب يحرم من زيارة فلسطين بفيزا إسرائيلية إثر مخالفة، يلقيه الاسرائيليون لأربع وعشرين ساعة في سجن مطار تل ابيب ثم يعيدونه إلى برلين، فيحاول مرة تلو المرة عبر معابر أخرى، إلى غزة، والضفة الغربية، ملاقيا عقبات صعبة.
كاميرا الفيلم تتجول بين “غرفة التحقيق” العزلاء، وتبدو هي الأساس في بنية العمل، حيث يتأسس بعض المشاهد انطلاقا من حوارية تجري في تلك الغرفة، منها نذهب إلى مشاهد صور معظمها في الطريق إلى فلسطين.
يبدو الأب بسيطا في تعامله مع الناس في الطريق، فرحا أحيانا بشكل طفولي. إلى جانب المقابلات مع الأقارب في فلسطين هناك بعض مشاهد لبيت الأسرة البرليني. هناك صور فائضة عن حاجة الفيلم، قد تكون تفسيرية فقط لكلام لا يحتاج إلى تفسير، مثلما يحدث حين تذكر شقيقة موسى نشاطه الجسماني في الطفولة فتكون الصورة التالية مشهد له وهو يزيل الثلج حول بيته في برلين.
قلقيلية الخلاص
في العام ١٩٩٤ يسافر الأب فيشتري بيتا في قلقيلية (في الضفة الغربية) يستثمره كألماني، لكن إثر الانتفاضة الثانية (العام ٢٠٠٠) وما نتج عنها من بناء الجدار العازل الذي جاء قريبا من منزله، طُرد القليقيلي من مدينته الأحب ليعود من جديد إلى برلين.
يختار القلقيلي تلك المدينة بملء إرادته، رغم أن مسقط رأسه في صحراء بئر السبع. حين تسأله ابنته يقول إن قلقيلية هي مسقط رأس أبيه وجد جده. إنه البحث عن الجذور إذاً، كأنما كل حومان الرجل ودأبه وانشغاله مكرس لتلك البقعة من الأرض.
في آخر الفيلم يدور حديث بين موسى القلقيلي وجاره في مهرجان خطابي في برلين، يسأل القلقيلي جاره “من أين أنت؟”، يجيب الرجل، ولكنه لا يرد السؤال للقلقيلي، لكن الأخير يجيب من تلقاء نفسه، بفرح طفولي: “أنا من قلقيلية”، حتى ليبدو وكأن العبارة هي خلاصة الرجل، وخلاصه.
قد تبدو حكاية الفيلم مكتملة عند هذا الحد، وفيها كل عناصر الحكاية التقليدية، حيث يعرض رحلة القلقيلي الأوديسية تجاه وطنه، ومن ثم خيبته وعودته إلى برلين منكفئا، يائسا، بلا درع، مثل حيوان جريح، كما تقول ابنته. غير أن ذكاء الفيلم أضاف بعدا أغنى المشهد بصور، ومعان أبعد من نوستالجيا الجذور.
منذ بداية الفيلم تعرض صورة لبيت العائلة البرليني، فيبدو في المشهد طابقان، شباكان مضيئان في عتمة المكان، في الأعلى تسكن الأم، الألمانية، وفي الطابق الأسفل يسكن الأب، الفلسطيني. هنا لم ترد المخرجة أن تتدخل بتفاصيل الحياة الزوجية، لكنها وظفتها في إطار دلالي. فأمها هي الزوجة الشقراء، التي لا توقفها الحواجز، لأنها ليست مسلمة، ولا آسيوية، ولا عربية، ولا فلسطينية، كما يقول الأب. صارت الزوجة هنا رمزا لثقافة أخرى عدوة متعالية. يقول القلقيلي عن ألمانيا “هذا بلد معاد لي، هم يعملون مع الإسرائيليين، لا فرق بالنسبة لي بين إسرائيل وألمانيا، أحدهم يطلق الرصاص، والآخر يبيعه الرصاص”.
قسوة المبدع
تقول المخرجة عن أمها “في البداية لم ترغب في الظهور في الفيلم لأنها اعتقدت أنه يعالج قصة أبي وحده. لكنني صممت على أن تشارك ولو في الخلفية: فتح الباب، التدخين، تنظيف البيت”. لكن المخرجة تقصدت عرض هذا التوازي بين حركة الأم في الأعلى والأب في الأسفل، مع حركة متعارضة إلى حد ما، دائماً يمشيان باتجاهين متعاكسين. لا يمكن أن يكون ذلك بريئا، إنها قسوة المبدع الذي لم يرد أن يرحم أو يتعاطف مع شخصية قريبة إلى هذا الحد.
يحسب للمخرجة بالطبع هذه المسافة القاسية التي تقصدت البقاء فيها تجاه الأب والأم. المخرجة تأخذ أباها إلى غرفة عزلاء إلا من مصباح كهربائي معلق، كما لو أنه في غرفة التحقيق، كل الحكاية ستحكى هناك. تسأله البنت فيجيب. لا تخلو وضعية البنت تجاه أبيها من نبرة محايدة، كيف لا وهي تصنف نفسها مع الشقراوات الثلاث، شقيقاتها، اللواتي يمثلن، إلى جانب الأم، تلك الثقافة الأخرى. غير أنه الحياد الموظف في خدمه حكاية الفيلم.
لكن لا بد أن يفلت شيء من حنان البنت تجاه أبيها. مرة في مشهدها وهي نائمة على كتفه في الطريق، مرة وهو نائم رأسه باتجاهها فيما تحاول أن تسند رأسه بشالها، وأخرى حين تعترف “عندما كنت صغيرة كنت أشعر دائماً أنني بحاجة لأن أحمي والدي، أحميه من الأشرار الألمان الذين يتعاملون معه بشكل سيئ لأنه أجنبي، أحميه من الإسرائيليين الذين طردوه، أحميه من أمي ومن مكنستها الكهربائية تقتحم ما بين رجليه”.
كانت تلك إشارات كافية على أن البنت بدأت تستعيد أباها، إلى حد أنها بدأت تتعلم العربية “وأقص مقالات حول فلسطين من الصحف، وذهبتُ إلى مظاهرات ضد الاحتلال الإسرائيلي. في المدرسة كنت أغضب حين يقول المدرسون إن فلسطين لم تكن بلدا”. من الواضح إذاً أن خاتمة الفيلم لا تكون عند الرجل الذي نكص يائسا إلى كهفه، بل في تسلم البنت راية أبيها. لا في تعلم العربية وحسب، فالفيلم نفسه هو نوع من الانتماء لقضية الأب.
راشد عيسى
2015/4/28
“الجزيرة”






























